الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أيشركون في عبادة الله من لا يخلقون شيئًا، وهم أنفسهم مخلوقون لله، إن من أشركوا بالله الأصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل، وكان الواجب أن يكونوا عقلاء فلا يتخذون من الأصنام آلهة. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ...} [الحج: 73].ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي لا ترى بالعين المجردة، ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق، بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئًا، لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه، فقد ضعف الطالب والمطلوب.والخلق- كما نعلم- أول مرتبة من مراتب القدرة، فإذا كانت الأصنام التي اتخذها هؤلاء شركاء لا تخلق شيئًا بإقرارهم هم، فكيف يعبدونها؟ إنها لا تخلق شيئًا بدليل أنها لا تتناسل. بل إذا أراد العابدون أن يزيدوا صنمًا صنعه العابدون بأنفسهم. ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول: {أَيُشْرِكُونَ} بصيغة تعجب، والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الاستفهام، أي تعجب منكرًا على وفق الطباع العادية، مثلما يقول لنا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله...} [البقرة: 28].أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بالله وتسترون وجوده، مع هذه الآيات البينات الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والاستغراب والإنكار الشديد، وحينما يتكلم الحق بإنكار شيء لأنه أمر عجيب، يوجه الكلام مرة إليهم، ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم، مثل قوله هنا: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.والكلام للمؤمنين لأنه يريد أن يعطي لقطتين في الآية، اللقطة الأولى: أن ينكر ما فعله هؤلاء، وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم، وفرحة بمواقفهم الإيمانية، حيث لم يكونوا مثل هؤلاء {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.وفي الآية الكريمة وقفة لفظية في الأسلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكالا، في قوله تعالى: {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا}. و{ما} تعني الذي لم يخلق شيئًا، و{يخلق} هنا للمفرد، وسبحانه وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا}.وأقول: إن الذي يقف هذه الوقفة، ويلاحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية، لأنه لا يعلم أن ما ومن وال تطلق على المفرد والمفردة، وعلى المثنى والمثناة، وعلى جمع الذكور وجمع الإناث، فتقول: جاءني من أكرمته، وجاءتني من أكرمتها، وجاءني من أكرمتهما، وجاءت من أكرمتهما، وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن.وكذلك {ما}. إذن فقول الحق: {مَا لاَ يَخْلُقُ} في ظاهرها مفرد، ولكن اللفظ يطلق على المفرد والجماعة؛ لذلك جاء في الأمر الثاني وراعى الجماعة، إذن {يخلق} للمفرد، و{هم يخلقون} للجمع لأن قوله: {ما} صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث.ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ...} [محمد: 16].وسبحانه قال هنا: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، ولم يقل: حتى إذا خرج من عندك بل قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} أي أنه جاء بالجماعة، فإذا رأيت ذلك في ما ومن وال فاعلم أن هذه الألفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور وجمع الإناث. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.وهنا في هذه الآية وقفة لغوية أخرى في قوله: {هم} وهي لا تطلق إلا على جماعة العقلاء، فكيف يطلق على الأصنام {هم} وليست من العقلاء؟ وأقول: إن الحق سبحانه وتعالى لما علم أنهم يعتقدون أنها تضر، وأنها تنفع، فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون، لكي يرتقي معهم في رد الإنكار لكل ما يستحق الإنكار. فأول مرحلة عرفهم أن الأصنام لا تخلق، وثاني مرحلة عرفهم أنهم هم أنفسهم مخلوقون والأصنام لا تقدر على نصرهم، إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لأنهم لا يخلقون. وهذا أول عجز، ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر، لكن بعد هذا العجز الأول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار معهم ترقية أخرى فيقول: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا...}. اهـ.
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {وهُمْ يُخْلقُونَ}.يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها، ومحتملة للجميع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله: {وهُمْ يُخْلَقُونَ} للمعنى، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم بـ {هُم} وجمعهم بالواو والنون، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير، أو يعودُ على الكُفَّارِ، أي: والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}.كما لا يجوز أن يكون الربُّ مخلوقًا لا يجوز أن يكون غير الرب خالقًا، فَمَنْ وَصَفَ الحقَّ بخصائص وصف الخلْق فقد أَلْحَدَ، ومَنْ نَعَتَ الخلَّقَ بما هو من خصائص حق الحق فقد جحَدَ. اهـ..تفسير الآية رقم (192): قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}.من أقوال المفسرين: .قال البقاعي: {ولا يستطيعون لهم} أي للمشركين الذين يعبدونها {نصرًا} وهو المعونة على العدو، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلًا عن أن يجعلوهم أربابهم.ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه، نفي ذلك بقوله: {ولا أنفسهم ينصرون} أي في وقت من الأوقات عند يصيبهم بسوء، بل عبدتهم يدافعون عنهم. اهـ..قال الفخر: أما قوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}.يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها.والنصر: المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادرًا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك.فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟ثم قال: {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروهًا فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه. اهـ..قال ابن عطية: قوله تعالى: {ولا يستطيعون} الآية، هذه تخرج على تأويل من قال إن المراد آدم وحواء والشمس على ما تقدم، ولكن بقلق وتعسف من المتأول في المعنى، وإنما تتسق هذه الآيات ويروق نظمها ويتناصر معناها على التأويل الآخر، والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره. اهـ..قال أبو حيان: {ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون} أي ولا تقدر الأصنام أن يعبدهم على نصر ولا لأنفسهم إن حدث بهم حادث بل عبدتهم الذين يدفعون عنها ويحمونها ومن لا يقدر على نصر نفسه كيف يقدر على نصر غيره. اهـ..قال أبو السعود: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي لِعبَدَتهم إذا حزّ بهم أمرٌ مهِمّ وخطبٌ مُلِمٌّ {نَصْرًا} أي نصرًا ما بجلب منفعةٍ أو دفعِ مضرة {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا اعتراهم حادثةٌ من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيرادُ النصر للمشاكلة، وهذا بيانٌ لعجزهم عن إيصال منفعةٍ ما من المنافع الوجوديةِ والعدميةِ إلى عبدتهم وأنفسِهم بعد بيانِ عجزِهم عن إيصال منفعةِ الوجود إليهم وإلى أنفسهم، خلا أنهم وُصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلًا لها وهاهنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلًا لها. اهـ..قال الألوسي: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}.{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي الأصنام {لَهُمْ} أي للمشركين الذين عبدوهم {نَصْرًا} أي نصرًا ما إذا أحزنهم أمرهم وخطب ملم {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والاحتياج المنافيين لاستحقاق الألوهية، ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم أهلًا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلًا لها. اهـ..قال القاسمي: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي: لعبدتهم إذا حزبهم أمر {نَصْرًا} أي: بجلب نفع، أو دفع ضر {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا اعترتهم حادثة من الحوادث، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}، وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه، ويهينها غاية الإهانة.وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عَمْرو بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانا شابين، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين، يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبًا للأرامل، ليعتبر قومها.وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيدًا في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عَمْرو بن الجموح، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفًا، ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضًا. حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عَمْرو بن الجموح، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل. وقال:مستدن: ذليل مستعبد. والقرن: الحبل.ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه.تنبيه:قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، لأن قوله: {أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ} الآية- حجاج، وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى. اهـ. .قال ابن عاشور: وجملة: {ولا يستطيعون لهم نصرًا} عطف على جملة: {مالا يخلق شيئًا} فتكون صلة ثانية.والقول في الفعلين من {لا يستطيعون ولا أنفسهم ينصرون} كالقول في {ما لاَ يَخلق شيئًا}.وتقديم المفعول في {ولا أنفسهم ينصرون} للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصّر في نصر غيره لا يقصِّر في نصر نفسه لو قدر.والمعنى: أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها.والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم} [يس: 74، 75] وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزًا كلا سيكفرون بعبادتهم} [مريم: 81، 82]، قال أبو سفيان يوم أُحد «أعْلُ هبل» وقال أيضًا: «لنا العُزى ولا عُزى لكم» وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضًا بالبشارة بأن المشركين سيُغلبون قال: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها. اهـ.
|